الديمقراطية تعتمد على الرغبة في ممارستها

الديمقراطية تعتمد على الرغبة في ممارستها

* ما جرى في أميركا منذ بدء العملية الانتخابية التي تواجَه فيها الرئيس ترامب والمرشح بايدن وكل ما رافقها من تشكيك في حسن سيرها وصولا إلى اقتحام أنصار الرئيس الأميركي مبنى الكابيتول يستدعي من الجمبع التوقف عندها واستنتاج بعض الدروس

 
لم يكن يوما ترامب رئيسا عاديا، بمعنى أن انتخابه جاء في جزء منه ربما كبير كردة فعل على سخط أكثرية أميركية من مؤسساتهم السياسية، وفي ظل ثورة رقمية اجتاحت العالم وبدلت في نظامه الاقتصادي وخلفت خوفا وهلعا عند كثيرين على مستقبلهم ومستقبل أعمالهم التي بدت بالية أمام الواقع الجديد. فهم ترامب أن خوف الناس على مستقبلهم وغضبهم من حاضرهم مادة غنية للاستغلال وبالتالي للاستعمال. ما لم يفهمه ترامب أن المؤسسات الأميركية ما زالت أقوى من أن يدجنها شخص وهذا لحسن حظ الغرب الديمقراطي.
من المهم الإشارة إلى أن ما يجري من أحداث ونقاشات في الولايات المتحدة ليس خاصا بها إنما هو نقاش بات جزءا من العالم الغربي ويتعلق بالحكم وبالسياسات الاجتماعية والاقتصادية لتلك الدول وللهويات ودورها في تلك المجتمعات التي أصبحت في مجملها متعددة كما السياسة البيئية إلى ما هنالك من مسائل مهمة يتم تداولها في مرحلة متغيرات يمر بها العالم.
ما جرى في أميركا منذ بدء العملية الانتخابية التي تواجه فيها الرئيس ترامب والمرشح بايدن وكل ما رافقها من تشكيك في حسن سيرها وصولا إلى اقتحام أنصار الرئيس الأميركي الكابيتول يستدعي من الجمبع التوقف عندها واستنتاج بعض الدروس.
الدرس الأول الآتي من الولايات المتحدة وأحداثها الأخيرة هي أن الديماغوجية التي تستغل مخاوف مجموعة ما عدوة الديمقراطية. في حملته الانتخابية استغل ترامب خوف الأكثرية البيضاء من المستقبل، وأعطى لمخاوفهم ضحية في المهاجرين أولا الذين يتقاسمون من غير وجه حق سوق العمل مع تلك الأكثرية فوعد ببناء الجدار الفاصل، ثم الإسلام ثانيا خاصة وأن الإعلام العالمي ألصق به تهمة الإرهاب. وفي هذا الصدد وعد ترامب أنصاره بوقف إعطاء تأشيرات الدخول للوافدين من تلك الدول «العدوة لأميركا»ثم الصين التي تسرق من الولايات المتحدة التكنولوجيا وتجبر المصانع في أميركا على الإقفال وتشرد العمال فيها. ترامب في مشواره الانتخابي حرص على حصر «جعل أميركا عظيمة مجددا»شعار حملته، في شخصه وفي برنامجه، وحرص على وضع كل من لا يوافقه الرأي كالحزب الديمقراطي في خانة الاتهام بالتفريط في قوة البلاد. الديمقراطيون بدورهم وبعد استفاقتهم من ذهول نجاح ترامب بالانتخابات استمروا طوال سنوات حكمه الأربع باتهامه بالتواطؤ مع روسيا من أجل تحقيق فوزه. نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب غردت في العام 2017 أن تلك الانتخابات سرقت. بدوره عندما خسر ترامب اتهم الحزب الديمقراطي بسرقة الانتخابات. هذا التشنج والانقسام الاجتماعي الذي عكسته تصرفات وتصريحات المسؤولين في الحزبين أدى إلى حادثة اجتياح الكابيتول. هذا الاستغلال للديماغوجية يشرع لانقسام المجتمع بين معسكرين على نقيض تام ويجنح به نحو العنف وبالتالي يدمر الديمقراطية وقيمها التي تقوم أساسا على حل المشاكل التي تواجهه بالانتخابات والقوانين والحكمة والعقل.
الدرس الثاني يتعلق بفكرة الحزب الواحد كما في الصين مثلا، حيث إن قيم الديمقراطية فيها معدومة. للأسف هذا ما نراه يحدث اليوم في الولايات المتحدة، حيث يسعى الحزبان الرئيسيان بالتصرف على نحو لم تعهده البلاد قبلا. هذا النمط من السلوك أصبح واضحا ويتعلق بمركزية القرار وانصياع أفراده المنتخبين والمسؤولين بالكامل للقيادة. هذا يقتل التنوع داخل الحزب الواحد ويفقده ميزة لطالما كانت خاصة بالولايات المتحدة الأميركية، بحيث كان من الطبيعي لنائب أو حاكم لمنطقة أو ولاية ما أن يتبنى رغبة الناس فيها حتى لو كانت مخالفة لتوجهات حزبه، فتأتي نتيجة تصويته انعكاسا لرغبة الناس الذين يمثلهم وليس الحزب الذي رشحه. اليوم أميركا بدأت تفقد تلك الميزة ويبدو الحزبان أقرب إلى الحزب الحاكم الصيني من حزب واشنطن أو لينكولن التعددي والغني. هذا التوجه يصيب الديمقراطية في مقتل أيضا ويقضي على التعددية والخصوصية لبعض المناطق أو الولايات.
أما الدرس الثالث فيكمن في النقاش الدائر حول دور منصات التواصل الاجتماعي خاصة بعد حظر الرئيس ترامب نهائيا من أغلبها. أصبحت تلك المنصات في قلب النقاش السياسي الدائر في الولايات المتحدة الأميركية والكلام حول حرية التعبير والأهم حول إعطاء بضعة أشخاص نفوذا هائلا على المحتوى الإعلامي. هناك أيضا من يتكلم عن تعديل القانون 230 والذي يعفي المنصات من مسؤولية ما تنشر.
لطالما اشتكى الجمهوريون من سيطرة بضع شركات نت وادي السيليكون على الخطاب العام من دون أن تكون خاضعة للمساءلة، أما المحافظون فهم يتهمون هذه الشركات بالتمييز ضد الآراء المحافظة وحظر المنشورات ليس بناءً على المعايير والمبادئ التوجيهية الأخلاقية لشركاتهم، ولكن على أساس آيديولوجي، الليبراليون والمستقلون قلقون بشأن تأثير تلك المنصات على حرية التعبير.. الديمقراطية قامت أصلا على أساس فصل السلطات كي تحتمي في نهاية المطاف من كابوس تجميع النفوذ كله بيد مؤسسة واحدة أو شخص واحد. وهو مبدأ الضوابط والتوازنات الذي مارسته حتى الساعة الولايات المتحدة بنجاح.
المهم أن تعتبر الولايات المتحدة من هذه الدروس كما ديمقراطيات العالم وأن تتأقلم وتؤقلم شعوبها مع المتغيرات التي حصلت مع الثورة الرقمية وتعيد رسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وتحمي الحريات العامة والخاصة بعيدا عن التشنجات التي تقسم المجتمع إلى أضداد تنزع به إلى نوع من حكم استبدادي، ومن هنا جاء رد بنجامين فرانكلين على سيدة قلقة سألته عن شكل الحكومة الذي قرر المؤتمر الدستوري لعام 1787 أن يعتمده، فقال لها «جمهورية»،ثم أردف: «إذا كنت تستطيعين الحفاظ عليها».
 

font change